فصل: تفسير الآيات (1- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم}..
وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلأ ثم تلقى حتفها.. وهو أنسب شيء لوصف الأعمال.. إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة.. ثم تنتهي إلى البوار!
{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم}.. {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}..
فهم مهملون، لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة {يوم القيامة}.
ولهم بعد ذلك جزاؤهم:
{ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا}.
ويتم التعاون في المشهد بعرض كفة المؤمنين في الميزان وقيمتهم:
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}..
وهذا النزل في جنات الفردوس في مقابل ذلك النزل في نار جهنم. وشتان شتان!
ثم هذه اللفتة الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله: {لا يبغون عنها حولا}.. وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة..
إنهم خالدون في جنات الفردوس.. ولكن النفس البشرية حوَّل قلب. تمل الاطراد، وتسأم البقاء على حال واحدة أو مكان واحد؛ وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه. وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه. بل قد تنتهي إلى الضيق به؛ والرغبة في الفرار منه!
هذه هي الفطرة التي فطر عليها الأنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض، ودوره في هذه الخلافة. فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله. ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل؛ وحب الكشف والاستطلاع، وحب الانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مشهد إلى مشهد، ومن نظام إلى نظام.. وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه، يغير في واقع الحياة، ويكشف عن مجاهل الأرض؛ ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة.. ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور؛ وتصل شيئاً فشيئاً إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم، والتعلق بالمألوف، والمحافظة على العادة. ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع. ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود. إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع. وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال. وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة.
فأما إذا غلب الركود والجمود. فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة، وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء.
هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض. فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق.. فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة. ولو بقيت النفس بفطرة الأرض، وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد، ولا تتحول هي عنه، ولا يتحول هو عنها لانقلب النعيم جحيماً لهذه النفس بعد فترة من الزمان؛ ولأصبحت الجنة سجناً لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة، ولو إلى الجحيم، ليرضوا نزعة التغير والتبديل!
ولكن بارئ هذه النفس وهو أعلم بها يحول رغباتها، فلا تعود تبغي التحول عن الجنة، وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد!
وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
{قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً}..
والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر، والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير!
فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد!
وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع.
والمعنى الكلي المجرد يظل حائراً في التصور البشري ومائعاً حتى يتمثل في صورة محسوسة. ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج.. ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود، فكيف بغير المحدود؟
لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس؛ ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال.
والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعاً غزيراً. وهو على سعته وغزارته محدود. وكلمات الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له، والذي لا يدرك البشر نهايته؛ بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله. فضلاً على محاكاته.
ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي، فيحسبون أنهم علموا كل شيء، أو أنهم في الطريق!
ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم!
إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم ضئيل قليل، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود.
فليعلم الإنسان ما يعلم؛ وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف.. ولكن ليطامن من غروره العلمي، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه ان يكون البحر مداداً في يده. وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد؛ ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد..
وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة، فيرسم أعلى أفق للبشرية وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة.
فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار، وتنحسر دونه الأنظار:
{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}..
إنه أفق الألوهية الأسمى.. فأين هنا آفاق النبوة، وهي على كل حال آفاق بشرية؟
{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي...}.. بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى. بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب. بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه. بشر يتعلم فيعلم فيعلم.. فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى، فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها:
{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}..
هذا هو جواز المرور إلى ذلك اللقاء الأثير.
وهكذا تختم السورة التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق والشمول، حتى تصل إلى نهايتها فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق، الذي ترتكز عليه سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير..

.سورة مريم:

.تفسير الآيات (1- 40):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد؛ ونفي الولد والشريك؛ ويلم بقضية البعث القائمة على قضية التوحيد.. هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة، كالشأن في السورة المكية غالباً.
والقصص هو مادة هذه السورة. فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى. فقصة مريم ومولد عيسى. فطرف من قصة إبراهيم مع أبيه.. ثم تعقبها إشارات إلى النبيين: إسحاق ويعقوب، وموسى وهرون، وإسماعيل، وإدريس. وآدم ونوح. ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة. ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث، ونفي الولد والشريك، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين.
ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث.
واستنكار للشرك ودعوى الولد؛ وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة.. وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل.
وللسورة، كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها، ويتمشى في موضوعاتها..
إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية.. الانفعالات في النفس البشرية، وفي نفس الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوره جماداً لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجو العام للسورة. حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكاراً:
{أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيسي فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة. وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى.
والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} وهو يناجي ربه نجاء: {إذ نادى ربه نداء خفياً}.. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيراً. ويكثر فيها اسم {الرحمن}. ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حناناً {وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً}. ومن نعمة الله على عيسى أن جعله براً بوالدته وديعاً لطيفاً: {وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً}..
وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال. كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته.. كذلك تحس أن للسورة إيقاعاً موسيقياً خاصاً. فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق: رضيا. سريا. حفيا. نجياً.. فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشددة دالاً في الغالب. مدّاً. ضداً. إدّاً، هدّاً، أو زاياً: عزّا. أزّاً.
وتنوع الإيقاع الموسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جلياً في هذه السورة.
فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا:
{ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفياً...} إلخ.
وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه:
{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً...} إلخ إلى أن ينتهي القصص، ويجيء التعقيب، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم، وللفصل في قضية بنوته. فيختلف نظام الفواصل والقوافي.. تطول الفاصلة، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية. على النحو التالي: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون...} إلخ.
حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة:
{واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً..} حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام، تغير الإيقاع الموسيقي وجرس القافية:
{قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً...} إلخ وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال: